عطر وثلج وكتاب
من يقرأ رواية مثل رواية «العطر» للألماني باتريك زوسكيند يتساءل: من أين أتى الكاتب بكل هذه المعلومات عن الروائح وأنواع العطور؟ أحد من كتبوا عن الرواية تساءل، محقاً: أيكون الكاتب نفسه عطاراً أو أنه عمل في وقت من الأوقات في مهنة العطارة، حتى يلم بكل هذه التفاصيل؟
وأنت تقرأ الرواية تكاد تشمّ رائحة كل شيء يرد حديث عنه فيها، ولكن، في ما يتصل بالعطر تحديداً سنعلم أن الكاتب سافر خصيصاً إلى مدينة جراس الواقعة في مقاطعة بروفانس جنوب فرنسا، أشهر مدن العالم في صناعة العطور، حتى أنها تعرف ب «مدينة العطر»، وفيها تمتد الأراضي المزروعة بالأزهار والورود الشهيرة التي تُستخدم في صناعة العطور الفرنسية، ولا تُقطف الأزهار فقط، بل أحياناً الأوراق أيضاً، وتنقل إلى مصانع المدينة؛ لاستخلاص الزيوت العطرية منها؛ فهذه الأنواع من الزهور تطلق عبيراً مميّزاً، على ما تفيد بيانات نجدها على المواقع الإلكترونية التي تُعرّف بالمدينة.
في هذه المدينة مكث الكاتب الفترة اللازمة كي يلمَّ بالتفاصيل الضرورية لكتابة روايته، لذا علينا ألا نفاجأ حين «تفوح» من الرواية العطور المستخلصة من أغصان القرفة والبتولا والكافور والصنوبر والنارنج والمسك والسرو والبخور والياسمين والنرجس والزنبق والبلوط.
ليس زوسكيند هو الكاتب الوحيد الذي قصد المكان الذي يلهمه بالأفكار ويزوده بالمعلومات الضرورية لإنجاز روايته، فلكي يكتب التركي أورهان باموق روايته «ثلج» قصد مدينة فرانكفورت التي قضى بطل الرواية السنوات الخمس عشرة الأخيرة فيها، واستعان بدليلين أخذاه إلى الأماكن التي أقام فيها «كا» بطل الرواية، كي يتخيل كيف كان «كا» يمشي كل صباح من بيته إلى مكتبة المدينة. وهناك تعرّف الكاتب على البقالات التركية والحلاقين ومطاعم الكباب، وتجوّل في الأحياء القديمة والفقيرة التي أقام المهاجرون الأكراد فيها بيوتهم. ومع أن تلك الرواية كانت السابعة بين رواياته، لكنه قال إنه كان يراقب ما يرى ويدوّن الملاحظات حولها بشعور المبتدئ الذي يكتب روايته الأولى.
مثل زوسكيند وباموق تفرغت الراحلة رضوى عاشور من عملها وقصدت الأندلس، وغرناطة بصفة خاصة، كي تجمع المادة اللازمة لكتابة ثلاثيتها عن غرناطة، وجالت في الشوارع التي تخيلت أن شخصيات روايتها قطعتها مشياً، وحاذت النهر الذي كان أبطالها يتنزهون على ضفته. بل إن رضوى نشرت في آخر صفحات الرواية قائمة بعشرات المراجع والمصادر التي قرأتها حول الحقبة الزمنية التي تناولتها من تاريخ الأندلس.
نسوق كل هذا برسم من يستسهلون اليوم كتابة الرواية ويستخفون بها، ما يفسر هذا الطوفان من «الروايات» التي يحسب كُتابها أن الأمر لا يعدو كونه جلوساً لبضعة أسابيع، أو حتى أيام، أمام شاشة الحاسوب ليصدروا رواية.
- See more at:
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/9B5A8EAA-6844-4000-BC4A-B9D2CDF71FD5#sthash.LUUgNFSM.dpuf