حكايتان عن الرماد
تحكي كاتبة من صربيا اسمها دوبرا اوجريسيك، عن مشهد يستهويها في فيلم روسي قديم مستوحى من رواية. أحداث الفيلم تدور حول جندية شابة شجاعة فترة الحرب الأهلية في روسيا بعد ثورة أكتوبر 1917. كانت الفتاة مجندة في الجيش الأحمر الحكومي، وتمكنت من أسر ضابط في الجيش الآخر المناهض المعروف باسم الجيش الأبيض، حيث وضعته تحت الحراسة في كوخ ناءٍ بانتظار عودة الفصيلة التي تنتمي إليها.
كان الأسير جذاباً ولطيفاً، لذا تروي الحكاية التي ترجمها إلى العربية غازي أبو عقل أن الفتاة وقعت في حبه، متجاوزة بذلك خلافها السياسي والفكري معه. كان الحب أقوى من هذه الخلافات، وفيما هما ينتظران، ينفد ورق لفائف تبغ الضابط الأسير، فلم تجد الفتاة ما تقدمه له سوى الشيء الوحيد الثمين الذي تحتفظ به، وهو دفتر صغير متواضع كانت تدون فيه القصائد التي تكتبها. انصرف الضابط الأسير إلى لف التبغ بقصائد الجندية ليُحولها ببساطة وبلامبالاة إلى رماد حتى آخر سطر وكلمة فيها.
الكاتبة الصربية أرادت من خلال اهتمامها بهذا المشهد، الحديث عن شيء آخر مهم توحي به تفاصيلها. إن الحديث لا يدور عن فتاة عاشقة ضحت بقصائدها في سبيل من تحب، وإنما عن «الخلاصة المجازية لتاريخ الآداب الإنسانية ولعلاقة النساء بإبداعهن الخاص بهن وصلة الرجال بإبداع رفيقاتهم». برأيها أن الرجال، وعبر التاريخ كله، حولوا طموحات النساء الأدبية إلى رماد وضحت النساء بأنفسهن في سبيل الحفاظ على أدب الرجال، فيما فعل الرجال العكس تماماً.
والكاتبة، وكمن ينتقم للنساء من عسف الرجال، تورد حكاية أخرى عن أم من موسكو كثيرة القلق على ابنها الوحيد وبمبالغة لا مبرر لها، فهو طالب ذكي ومجتهد يهوى الأدب ويعتبر بوشكين أيقونة مقدسة وملهمه الأكبر.
من مخاوف الأم على ابنها احتمال أنه يتعاطى المخدرات، لذلك كانت تفتش جيوبه بانتظام، إلى أن انتهت أخيراً للعثور على ما كانت تخشاه: قطعة صغيرة من مادة سمراء داكنة ملفوفة بعناية بورق الألمنيوم. ولم تشأ الأم أن تتلف تلك المادة المشؤومة التي وجدتها في جيب الصبي، بل فضلت أن تجربها على نفسها كي تختبر آثار المخدر، ورغم أنها عديمة الخبرة في هذا المجال، إلا أنها تمكنت بعد جهد من لف لفافة من تلك المادة.
غير أن ظهور ابنها المفاجئ على الباب انتزعها من غفلتها، حين سألها: أين حفنة العشب؟ فأجابت بمرح: لقد دخنتها. لم تكن تلك حفنة حشيش كما حسبت الأم، وإنما كمشة تراب صغيرة أحضرها الولد من قبر بوشكين الذي كان مأخوذاً به. لقد دخّنت الأم تراب بوشكين.
أكانت الأم، دون أن تدري، تنتقم لجندية الجيش الأحمر التي حُولت قصائدها إلى رماد؟
- See more at:
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/9F8CE656-B93D-40AE-8673-BE1BCD28D9F9#sthash.AHFcCUqq.dpuf