ذات مرة قال لي سائق أجرة :
ـ"الوغد الآخر يريد أن يسرق الزبائن!.. إنه لا يؤمن بأنه لا حيلة في الرزق.. مهما جريت فلن تنال سوى رزقك!"
قلت له بصوت خافت إن نفس الكلام ينطبق عليه، فنظر لي بعينين حمراوين كالدم وصاح:
ـ"يا أستاذ أنا في الرزق ما أعرفش أبويا!"
بدت لي جملة غريبة جدًا توحي بالزهد للوهلة الأولى. بعد هذا قال مثلاً جميلاً لم أنسه بعد هذه الأعوام:
ـ"آل يا واخد قوتي. يا ناوي على موتي!"
الناس لا يكفون عن الكلام عن رضاهم بالرزق، وأن رزقك سوف يصل لك بلا زيادة ولا نقصان، ولا تأجيل ولا تعجيل مهما فعلت. هذا شيء جميل كما ترى ويدل على صفاء النفوس، وإعجابي بهذه الخصلة الحميدة شديد، وأتمنى لو امتلكتها. إن المرء يتعلم من الناس الطيبين في مجتمعنا بلا توقف.
كانت هذه الخواطر في ذهني، عندما جلست أمام الحلاق المُسن في صالونه الصغير. في كل مكان لوحات تقول: "اجرِ يا ابن آدم جري الوحوش.. غير رزقك لم تحوش". و"لا شفاعة في الموت ولا حيلة في الرزق". و"لو كان الرزق يأتي بمقدرة.. ما استخلص العصفور شيئًا من النسر".. إلخ..
يا سلام!.. كمية رضا وقناعة لا يمكن ان تجدها في أي بلد آخر، دعك من وجه الحلاق الطيب الضحوك. وهو يردد همسًا:
ـ" لو كان الرزق يأتي بمقدرة.. ما استخلص العصفور شيئًا من النسر.. يا سلام.."
نظرت إلى الانعكاس في المرآة الذي يظهر الجانب الآخر من الشارع، فرأيت رجلين يعلقان لافتة على متجر صغير له نافذة زجاجية عملاقة. الكلام بالمقلوب طبعًا يصعب أن أقرأه إلا (هقالح نولاص).. قلت له:
ـ"هل هذا مطعم ؟ يبدو مغريًا بالتجربة".
هرع للباب وألقى نظرة، ثم رأيته يُخنفر بقوة وعنف. ولاشعوريًا أمسك بموسى الحلاقة واندفع نحو مطعم (هقالح نولاص) هذا وهو يزمجر. استدرت والمنشفة على صدري لأرى ما هنالك فرأيت اللافتة مقروءة بوضوح (صالون حلاقة).. هذا مطعم اسمه صالون حلاقة إذن.. ثم فطنت إلى أنني أحمق.. هذا صالون حلاقة فعلاً.
كان الحلاق المسن يتشاجر ويهدد ويرغي ويزبد ويصرخ ويسب ويلعن ويبصق..يا ولاد الكلب.. ألم تجدوا مكانًا في مصر كلها لتفتتحوا صالون حلاقة سوى أمام الصالون الذي أملكه؟ أيها اللص.. أيها الضبع الذي يقتات بالفضلات.. ثم جاء صاحب الصالون الجديد ودارت مشاجرة عنيفة.. وسمعت الحلاق المسن يهدد بأن يستأجر من يحرقون الصالون الجديد، والآخر يصرخ: "ليتك تفعل هذا لأقطع حلقومك!".
هؤلاء قوم طيبون يؤمنون بالرزق فعلاً. أنا منبهر للغاية..
غادرت الصالون أخيرًا ومشيت في أحد الميادين الكبرى، فلاحقني فتى يريد أن يبيع لي بعض المناديل الورقية، وقبل أن أمد يدي لجيبي ظهر فتى آخر من مكان ما ودفع الأول في صدره، وصاح:
ـ"هذه المكالمة لي أنا!... آلو!"
وتبادل الاثنان السباب، ثم تحول السباب إلى لكز ثم صار اللكز لكمات، لأن كلاًّ منهما يزعم أن هذه منطقته، وقد بادرت بالفرار بينما هما مشغولان يقتتلان. قد سال الدم من أنفيهما فلا أعتقد أنني رأيت ضبعين يمزقان بعضهما بهذه الشراسة. قناعة مذهلة فعلاً.
حضرت جلسة يتم فيها تخصيص الشقق ضمن مشروع ما، وكنا جالسين في قاعة واسعة ينتظر كل واحد دوره.. فرأيت العيون الذاهلة والذعر. اللعاب يتساقط من الأفواه والأيدي ترتجف. كل واحد يدرك يقينًا أن الآخرين خدعوه وظفروا بفرص أفضل.. وكل واحد يتمنى أن يحترق الآخرون أو تاخذهم مصيبة.. لكن كل واحد يكرر أن هذا نصيب وأنه سيرضى بما قسم له. بعد دقيقة من تخصيص الشقة يبحث عن موظف يبدلها له خلسة.
تقول قوانين "مورفي" العبقرية إنه لو تواجد محام واحد في البلدة فهو لا يكاد يعمل، بينما لو تواجد محاميان فإنهما يغرقان في العمل. هذه حقيقة لكنها لا تنطبق على ما يبدو إلا على المحاماة. في الواقع يؤمن معظم الناس أن كمية الرزق محدودة جدًا، وأنه لو قسَّمت الرزق على ثلاثة لكان نصيب الفرد أقل مما لو قسمته على اثنين. لكنهم يمارسون حالة من الزهد الزائف الذي يتحطم لدى أول صدام حقيقي مع الواقع. وهذا نموذج آخر لمقولات نرددها يوميًا بلساننا فقط.. لا يكفون عن الكلام عن الرزق، بينما هم يؤمنون أنه يا واخد قوتي يا ناوي على موتي. يتكلمون عن جري الوحوش وهم مستعدون لحرق أي محل يمارس نفس النشاط في البلدة. سوف أغضب جدًا لو جاءت هذه الجريدة بكاتب بالتبادل معي. والأسوأ لو جاؤوا به غيري، لكني سأردد كالآخرين أن هذا رزقي!. الكلام سهل جدًا والأفعال صعبة، لكن المشاعر أصعب وأصعب بلا شك.
-أحمد خالد توفيق
مقال.. أناس طيبون